علاقة المشهد الواحد
علاقة المشهد الواحد
فى رأيي إن أكتر نوع مؤذى ومشوه من العلاقات هو "علاقة المشهد الواحد"..
يعنى تاخد للى قدامك لقطة.. لقطة واحدة بس.. وتشوفه وتسمعه وتحسه من خلال اللقطة دى..مش بس كده.. ده انت ممكن تكوِن عنه رأى قاطع وسريع وحاسم -قد يصل إلى درجة الحكم- برضه من خلال اللقطة دى.. دى وبس..
يعنى واحد بيعدى بفترة محتار فيها شوية.. متلخبط.. عنده أسئلة عن نفسه أو عن اللى حواليه، أو حتى عن ربنا.. بيحاول يكسر الأصنام اللى عملها المجتمع والعرف والتقاليد وعبدها من دون الله.. تشوفه حضرتك بكل بساطة من خلال المشهد ده بس.. وتحكم عليه إنه فاسق وماجن وخارج عن الملة.. وماتحطش أى احتمال إنه بيدور.. وإنه فى رحلة.. وإنه من حقه يسأل ويستقصى ويُعمل عقله وفكره بالظبط زى ما أبونا ابراهيم فضل يدور ويسأل ويحتار فى تأليه القمر، والشمس، لغاية ما سأل ربنا نفسه وقاله: "رب أرنى كيف تحيي الموتى".. تقرر حضرتك فى لحظة واحدة إنك تعمى عن الجزء اللى فات من شريط عمره بكل ما فيه من تفاصيل.. والجزء اللى جاى بكل ما فيه من احتمالات.. وتصنع من نفسك إله جديد.. لا.. صنم جديد.. يدى لنفسه الحق إنه يحكم، وينفرد بالرأى.. ويقتل بالكلمات..
أو واحد قرر يغير الكلية اللى بيدرس فيها أو المهنة اللى بيمارسها.. أو حتى البلد اللى عايش فيها.. تتناسى حضرتك أى أبعاد تانية للمشهد، وتشوف منه اللحظة دى وبس..ولا تراه إلا على إنه فاشل وغريب الأطوار ومش مقدر النعمة اللى فى إيديه.. تتناسى إن كل واحد من حقه فى أى وقت إنه يغير طريقه ويسلك طريق جديد تبعاً لما يراه وما يقدره، حتى لو كان –من وجهة نظرك الكريمة- غلط.. وتتجاهل إنه من حق أى حد فى سكة حياته إنه يقف شوية.. ويختار.. ويعيد الاختيار.. ويبدأ من جديد.. ويقف تانى.. ويعيد الاختيار تانى.. ويبدأ من جديد تالت ورابع.. ومن غير ده، لا تكون الحياة سوى سلسلة متكررة مملة من النزف البطئ..
أو واحدة قررت إنها تتخلى عن غطاء رأسها.. تحكم عليها حضرتك بكل ثقة إنها زنديقة وعاهرة وكافرة كمان.. وماتخدش فى اعتبارك إن القرار ده ممكن يكون جزء من رحلتها الطويلة الشريفة اللى بتدور فيها على نفسها الحقيقية علشان توصل بيها لربنا اللى هى تعرفه واللى هى بتحبه واللى هى واثقة إنه بيحبها، أو إن ده ممكن يكون نقطة صغيرة على خط بيانى طويل حضرتك ماتعرفش أوله جاى منين.. ولا آخره رايح فين.. لكن بالنسبة لك أى طريق غير طريقك هو خطأ وأى خط بيانى غير خطك هو منحرف..
حد غلط.. حد ضعف.. حد فشل.. تفصله حضرتك -وانت بتشرب كوباية الشاى وبتتكرع- عن قصة حياته الطويلة العريضة بمرتفعاتها ومنخفضاتها.. وتقصه عن جذوره وعن فروعه.. ولا تراه إلا من خلال مشهد واحد ثابت قدام عينيك مش عاوز تشوف غيره.. علشان يفضل هو فلان (الغلطان) أو فلان (الضعيف) أو فلان (الفاشل) أو فلان (الكافر).. وانت الحكم الحكيم صاحب الرؤية الثاقبة والكلمة الأخيرة..
الأمثلة أكتر من كده بكتير- خاصة فى مجتمعنا- فى الشارع والشغل والبيت والعلاقات والاختيارات والناس الغلابة اللى ربنا فاتحلهم أبواب القبول والرزق والرحمة بدون شروط.. لكننا بنحب نتشرط على البنى آدميين.. ونفصلَهم على مقاسنا.. ونحط نفسنا مكان ربنا..
ربنا اللى تحمل ورحب وتجاوب مع أسئلة عبده النبى ابراهيم عن ألوهيته وذاته وقدراته.. بس احنا مش بنتحمل حتى أسئلة أولادنا.. مش بنتحمل اختلاف أى حد عننا.. احنا مش بنتحمل وجود الآخر من أصله..
ربنا اللى مافيش نبى ولا رسول أرسله إلا وسمح له يغير مهنته أو بلده أو رحلة حياته.. لكننا عاوزين نمشى فى حياتنا زى القطر اللى مش بيقف على محطات.. ونمشِى الناس على نفس خطوطنا القديمة البالية المتهالكة..
إحنا محترفين أحكام فى صورة آراء..
وتأنيب فى صورة نصايح..
وتشويه فى صورة تربية..
مافيش مشهد واحد فى حياة أى حد..
فيه رحلة.. ومحطات.. ومنحنيات.. وحتت ضلمة.. وحتت نور..
فيه بنى آدم..
انطوى فيه العالم الأكبر..
محمد طه
تعليقات
إرسال تعليق